يصل خبر مرض النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) سريعاً إلى معسكر أُسامة ، فيتسلّل كثير من المسلمين واحداً تلو الآخر نحو المدينة .
اليوم هو يوم الخميس ، خمسة وعشرون يوماً مضى من صفر ، يجتمع ما يقارب من ثلاثين نفراً في بيت النبيّ
[51] جاؤوا لعيادته ، كانت دموع بعضهم تنساب على خدّيه حسرةً .
يلتفت النبيّ نحو أصحابه ويقول لهم : ائتوني بدواة وكتف ; أكتبْ لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً .
فيما يهمّ أحدهم بالنهوض لجلب الدواة والكتف وإذا بصوت يباغت الحضّار : ارجع ! إنّ الرجل ليهجر ! القرآن يكفينا !
يا إلهي ! ماذا سمعت؟! مَن هذا الذي يتكلّم بهذا الكلام ؟
يديم كلامه : لقد غلب عليه الوجع ، أليس عندكم القرآن ؟ إذاً أيّ شيء تريدون أن يكتب لكم النبيّ ؟
[52] أمعنتُ النظر كي أتعرّف على هذا المتجاسر .
إنّه عمر مَن تكلّم بهذا الكلام
[53] قارئي العزيز .
ألم يأمرنا القرآن بالإنصات إلى كلام النبيّ ؟ ألم يذكر القرآن أنّ كلام النبيّ من وحي السماء لا من عنده ; إذ قال تعالى فيه: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَ مَا غَوَى * وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى )
[54] فلِمَ ينسب عمر الهذيان والهجر إلى النبيّ الأكرم ؟
يخالف البعضُ من الحضّار قول عمر فيقول : دعونا نجلب الدواة والكتف للنبيّ ليكتب لنا .
نعم ، هذا آخر طلب النبيّ ، النبيّ الذي ضحّى بنفسه لهؤلاء ، وبذل ما بذل لهدايتهم ، هل من الصحيح أن لا نحقّق آخر أُمنياته ؟
وماذا أراد منّا؟ ليس أكثر من قلم وورق ليكتب لنا كتاباً لا نضلّ بعد أبداً ؟
[55] فترتفع الأصوات ، بعضٌ يوافق ، وبعضٌ يخالف وينافق
[56] أنت تعلم أنّه بيت عائشة ، كلّ شيء في هذا البيت تحت سيطرة جماعة معيّنة ، حيث يرتفع صوتها عالياً : القول ما قال عمر !
[57] نعم ، إنّ حزباً معيّناً كان يدير دفّة الأُمور في ذلك البيت ، كانوا يخالفون كلّ شيء لا يصبّ في منافعهم .
وهم ما جلبوا النبيّ إلى هذا البيت إلاّ لمنعه من الحصول على القلم والورق .
هؤلاء كانوا يحلمون بالسلطة والرئاسة .
وممّا يزيد من تعجّبي ، أنّ النبيّ لا يزال حيّاً ! يريد أن يكتب لأُمّته ما يبقى في خاطرها ، فلماذا يخالف هؤلاء ؟
ومَن هو عمر مِن بين الناس حتّى ينبغي الاستماع إلى كلامه لا إلى كلام النبيّ ، وحتّى يُطاع ويُعصى النبيّ؟!
وترتفع الأصوات عند فراش النبيّ، وتصل إلى خارج الحجرة .
تدخل إحدى نسائه ( وأظنّها أُمّ سلمة ) الحجرة .
ـ ما الخبر ؟ !
ـ النبيّ يطلب دواةً وكتفاً ليكتب لنا كتاباً ، وعمر يخالف ذلك .
ـ وَيْحَكم ! لماذا لا تطيعون النبيّ ؟!
يؤثّر كلام أُمّ سلمة في البعض، فتُثار فيهم الحمية ، صحيح، لماذا لا يجلبون للنبيّ الدواة والكتف ؟
يُصاب عمر بذعر شديد من أن يذهب البعض لجلب القلم والورق للنبيّ ، فيلتفت نحو أُمّ سلمة صائحاً : اسكتي ، فإنّه لا عقل لكِ !
[58] وكان لصوت عمر الغاضب هذا الأثر في إسكات بقيّة الأصوات .
أخذوا ينظر بعضهم إلى بعض ، هل الكتابة جريمة ؟ لماذا لا يقول أحدهم شيئاً ؟ !
يجيل النبيّ بصره فيما حوله متأسّفاً ، ماذا يقول لهؤلاء ، ألم ترَ إلى عمر كيف يتجرّأ على حريم النبي ؟
يسكت الجميع كأنّ على رؤوسهم الطير ، يقف عمر أمام عتبة الباب ، ليس لأحد الحقّ في النهوض لجلب القلم والورق !
تتعجّب الملائكة كلّها من هذا المشهد ، ليت النبيّ كان معافى أو كانت له القدرة على النهوض .
هل تتذكّر عزيزي القارئ ذهاب النبيّ إلى البقيع وإشارته إلى الفتنة السوداء ؟ مَن كان يتصوّر أنّ هذه الفتنة سريعاً ما سترسم مظلومية النبيّ وفي حياته ؟
كان عمر يعلم ماذا يريد أن يخطّ النبيّ بالدواة على الكتف ، كان النبيّ يريد أن يترك خلفه وثيقة تبقى أثراً مكتوباً خالداً حول خلافة وصيّه عليّ(عليه السلام) له
[59] كان تصميم عمر على منع النبيّ عن هذا الفعل بأيّ وسيلة كانت .
وأنت ، هل تعرف لماذا ؟
عمر، هل كان قلبه يحترق على الإسلام أكثر من النبيّ ! !
هل كان يخاف أنّ الناس سيرفضون قيادة عليّ لهم ، فعليّ كان شابّاً يافعاً جدّاً ، ولهذا من الصعب أن يقبله الناس قائداً عليهم . هكذا ادّعَوا.
وإنّي لفي عجب حقّاً مِن شخص يحترق قلبه على الإسلام كيف ينسب الهجر والهذيان إلى شخص النبيّ دفاعاً عن الإسلام !
هل حقّاً كان يريد حفظ الإسلام بذلك ؟ أم ... .
لا أدري ، أنا فقط أمعنت النظر في وجه النبيّ ، فوجدت قطرات دمع تترقرق في مآقيه .
ثمّ رأيته كيف يجيل النظر فيما حوله ويقول مغضباً : قوموا عنّي ، لا أُريد رؤيتكم
[60] فينهض الناس خارجين .
وفي اللحظات الأخيرة ، يقترب بعض الأصحاب من النبيّ ويهمسون له : يا رسول الله، نأتيك بدواة وكتف ؟
ينظر النبيّ إليهم مليّاً ثمّ يقول : أنا لا زلت بين ظهرانيكم وأنتم تصرّفتم هكذا ، كلاّ ، لا أحتاج إلى الدواة والكتف ، ولكنّي أوصيكم بأهل بيتي خيراً
[61] ومرّة أُخرى تسيل دموع النبيّ من مآقيه .
لماذا يوصي النبيّ هكذا وصيّةً ؟ هل هناك خطر يتهدّد أهل بيته بعده ؟
كلُّ فهيم يعرف أنّ أيّاماً صعبة تهدّد آل بيت النبيّ بعده .
هؤلاء الذين نسبوا الهذيان والهجر إلى النبيّ ، لن يتورّعوا لأجل الوصول إلى دفّة الحكومة والرئاسة من فعل أيّ شيء
[62]