تدخل عائشة الحجرة وتجلس جانباً .
يفيق النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) من إغمائه ، يسأله عليّ(عليه السلام) :
ـ يا نبيّ الله ، إذا رحلتَ إلى ربّك ، أين أدفنك ؟
ـ هنا في بيتي .
فتقول عائشة وكانت تسمع الكلام : وأين أسكن ؟
يجيبها النبيّ : اسكني بيتاً من البيوت ، إنّما هو بيتي ، ليس لكِ الحقّ إلاّ ما لغيركِ . يا عائشة! لا تخالفي مولاكِ عليّاً
[92] نعم ، هذا البيت هو بيت النبيّ ، تَرِثه مِن بعده عائلته ، حينما تقسّم الإرث ترى أنّه لن يصل إلى عائشة منه سوى ما يعادل اثني عشر سنتمتراً من الحجرة .
ليس لعائشة الحقّ أكثر من هذه الاثني عشر سنتمتراً ، ومع ذا يأمرها النبيّ بالخروج من البيت والعيش في بيت آخر .
ولكن هل ستُطيق عائشة هذا الأمر ؟
يخيّم سواد الليل ، وتشتدّ حلكة الظلام .
الليلة هي آخر ليلة من عمر النبيّ ، وهو طريح الفراش ، وعليّ يجلس عند رأسه مغموماً .
يشتاق النبيّ إلى ابنته فاطمة(عليها السلام) ، يطلبها .
وبعد لحظات ، تدخل فاطمة ومعها الحسن والحسين .
وما أن تقع عيناها على النبيّ وتراه في هذه الحالة، حتّى تجري دموعها على خدّيها .
يستدعيها النبيّ إلى جنبه ، يأخذ عليّ بيدَي الحسن والحسين(عليهما السلام) ويخرج من الحجرة .
وفي الخارج تقترب عائشة من عليّ تسأله :
ـ لأيّ أمر خلا النبيّ بابنته وأخرجك ؟ !
ـ قد عرفتُ لِمَ خلا بها ، وأرادها له
[93] وبعد ساعة وإذا بصوت فاطمة ينادي : ادخلْ يا عليّ .
يدخل عليّ الحجرة، وإذا به يرى النبيّ يجود بنفسه .
يبكي عليّ وتجري دموعه على لحيته ، ويرتفع صوته بالبكاء .
يلتفت النبيّ نحوه ، يسأله : ما يبكيك ؟
وبعد لحظات ، يأخذ النبيَّ تفكيرٌ عميق ، وفجأةً يبدأ هو أيضاً ينشج بالبكاء .
يا إلهي ماذا يجري ؟ لماذا النبيّ يبكي ؟
استمعْ ، يكشف النبيّ عن سبب بكائه : أبكي لما سيجري عليك يا عليّ وعلى ابنتي فاطمة ، فقد أجمع القوم على ظلمكم ، وقد أستودِعُكُم اللهَ .
يا لَلعَجب ! ألم يؤكّد النبيّ كلّ تلك التأكيدات على مقام أهل بيته في الناس ؟ لأيّ شيء يريد المسلمون إيصال الأذى لوحيدة النبيّ وحبيبة قلبه ؟
أيّ غرض يرومون من ذلك ؟
يلتفت النبيّ نحو عليّ : يا عليّ ، قد أوصيتُ ابنتي فاطمة بأشياء وأمرتُها أن تُلقيَها إليك ، فأنفذها .
لا أحد يعرف مالذي قاله النبيّ لفاطمة ؟
ولكنّ السؤال الذي لا يزال يعتلج في ذهني هو لماذا لم يُلقِ النبيّ كلامه مباشرةً إلى عليّ ، وإنّما طلب من فاطمة نقله إليه ؟
ومرّةً أُخرى يضمّ النبيّ فاطمة إليه ويقبّل جبهتها ويقول : فداكِ أبوكِ يا فاطمة .
وتجهش فاطمة بالبكاء بعد أن تطفح عَبرتها .
ويعقّب النبيّ وهو لا يزال يضمّها إليه : أما واللهِ لَينتقمنّ الله ربّي ولَيغضبنّ لغضبكِ ، فالويل ثمّ الويل ثمّ الويل للظالمين !
يا تُرى ما الذي سيحلّ بعد وفاة النبيّ ؟
يجهش النبيّ بالبكاء ، وتذرف فاطمة الدموع بغزارة ، ويرتفع صوت بكاء الحسن والحسين .
ما الذي يجري في هذا البيت الليلة ؟ لماذا الجميع يبكي ؟
أسمعُ أصواتَ بكاء كثيرة غير بكاء هؤلاء .
إنّها الملائكة ، وهذا صوت جبرئيل يبكي لبكائهم
[94] يخاطب النبي ابنته : هوّني عليكِ يا بُنيّتي ، والذي بعثني بالحقّ لقد بكى لبكائك عرش الله وما حوله من الملائكة
[95] عندها تهدأ فاطمة ، ولكن ظلّت عيناها محمرّة من شدّة البكاء ، وابتلّ وجه النبيّ بالدموع .
ويأخذ النبيّ يكلّم ابنته يطيّب خاطرها : يا فاطمة ، أنتِ أوّل خلق الله يدخل الجنّة ، أنتِ سيّدة نساء الجنّة .
يا فاطمة ، يأمر الله جهنّم بالسكون والاستقرار حتّى تجوزين على الصراط .
يا فاطمة ، والذي بعثني بالحقّ أنّك لتدخلين الجنّة والحسن عن يمينك والحسين عن يسارك ، ولتُشرِفِنّ من أعلى الجنان بين يدي الله في المقام الشريف ، ولواء الحمد مع عليّ بن أبي طالب .
يا فاطمة ، لأقومنّ بخصومة أعدائك ، وليندمنّ قوم أخذوا حقّكِ وقطعوا مودّتك
[96] كان النبيّ يتكلّم بهذا الكلام ليهدىء من روع ابنته وحبيبته فاطمة ، ويخفّف عنها ; فإنّه قد اهتزّ عرش الله لبكائها !!