أخرجُ من المسجد متعجّباً ، يا ترى أين ذهب الناس ؟ المدينة فارغة من أهلها هي الأُخرى .
ربّما الناس في بيوتهم ؟
طرقت أبواب بعض المعارف ، ولكن لا أحد يجيبني .
أرى أحدهم يتّجه نحوي .
ـ السلام عليكم ، أين ذهب الناس ؟ لماذا المدينة فارغة من أهلها ؟
ـ ألا تدري ؟ الناس مجتمعون في السقيفة
[6] ـ ما هذه السقيفة ؟ ! ماذا يجري هناك ؟
ـ تعال معي ، هناك خبر مهمّ .
ذهبت معه إلى غرب المدينة ، إلى خارجها .
انظر ، هناك ظلّة كبيرة ، هذه هي السقيفة .
ما أشدَّ اجتماعَ الناس هناك وما أشدّ ضجيجهم !
ماذا يجري هناك ياتُرى !
لا يوجد مكان داخل السقيفة ، أينما تنظر لن ترى سوى تَدافُع الناس ، شققت طريقي بين الجموع متوجّهاً إلى الأمام .
ـ ماذا تفعل يارجل ؟ إلى أين تريد أن تذهب ؟ ألا ترى الطريق مسدودة ؟
ـ ولكنّي أُريد الذهاب إلى الأمام ، أُريد أن أنقل إلى قرّاء كتابي تقريرَ ما يحصل في الداخل ، أُكلّمهم بحقيقة ما يجري هناك ، فهؤلاء لهم الحقّ أن يفهموا ماذا يحصل في المدينة .
دخلتُ السقيفة رغم كلّ شيء ، فرأيت سريراً عليه عجوز مسجّى !
[7] أتقدّم إلى الأمام ، يبدو أنّ الرجل العجوز مريض ، يعلو الاصفرارُ وجهه .
يقف شاب بقربه ، يكرّر ما ينبسّ به هذا الرجل العجوز بإذنه ، بصوت مرتفع حتّى يُسمع الناس
[8] هل تعرّفت على هذا العجوز ؟ إنّه سعد ، رئيس قبيلة الخزرج ، وهذا الشاب الواقف بقربه ولده .
وأظنّك تعلم أنّ المدينة تتشكّل من قبيلتين ، هما الأوس والخزرج ، وكانتا قبل الإسلام في حرب دائمة ، ولكنّهما الآن ـ ببركة الإسلام ـ يعيشان بصلح ووئام .
اليوم يجتمع كبار هذه القبيلة في هذا المكان ليقرّروا مستقبل المدينة .
يتحامل سعد على نفسه ويقول :
ـ يا معشر الأنصار ، لكم سابقة في الدين ، وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب ; إنّ محمّداً لبث بضع عشرة سنةً في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمان وخلع الأنداد والأوثان ، فما آمن به من قومه إلاّ رجال قليل ... حتّى أثخن الله عزّوجلّ لرسوله بكم الأرض ، ودانت بأسيافكم له العرب ، وتوفّاه الله وهو عنكم راض وبكم قريرُ عين ، استبِدّوا بهذا الأمر ; فإنّه لكم دون الناس
[9] فأجابه الناس بصوت واحد : ما أحسن ما قلت يا سعد ، لن نعمل سوى بقولك ، أنت خليفة المسلمين !
وماج الناس حول سعد وهم يرتجزون :
* * *
نفسه الشعر الذي كانوا يقرؤونه أيّام الجاهلية ، ما الذي جعل المسلمين يتذكّرون أيّام جاهليتهم ؟ !
لم يُوارَ جثمان النبيّ بعد ، هل عادت الجاهلية ؟
يا رفيقي في هذا السفر ، اصغِ .
الظاهر أنّ الكلام يدور حول الخلافة ، والبحث مهمّ جدّاً ، اجتمع الناس هنا ليقرّروا خليفة النبيّ .
يا لَلعجب ، ألم يُعيّن النبيّ في غدير خمّ عليّاً خليفةً له من بعده ؟
أليس هؤلاء الناس هم أنفسهم الذين بايعوه على الخلافة ؟ لماذا نسوا بهذه السرعة كلّ شيء ؟
لم يمضِ على يوم غدير خم سوى ستّة وستّون يوماً فقط !
هل نسي هؤلاء خطابَ النبيّ وسط عشرات الآلاف من الناس وهو ينادي : "مَن كنتُ مولاه فهذا عليّ مولاه" ؟ !
[11] فيما أنا أفكّر في هذا وإذا بصوت ينبعث من أقصى القوم : لن يقبل المهاجرون بهذا الكلام ، ولن يبايعوا سعداً ; لأنّهم أوّلنا إسلاماً ، وهم عشيرة النبيّ .
يغرق الجميع في صمت طويل ، نعم ، هؤلاء المهاجرون آمنوا بالنبيّ في مكّة وهاجروا معه إلى المدينة .
إنّهم أوّل الناس إيماناً بالنبيّ، وأغلبهم من عشيرته وأوليائه .
يجيب أحدهم : سنقول لهم : منّا أمير ومنكم أمير !
يسمع سعد هذا الكلام فيلتفت إلى قائله ويقول : لا تتكلّموا بهذا الكلام ، فهذا أوّل الوهن ، ليكن إصراركم على أنّ الخليفة يجب أن يكون من أهل المدينة ، وسيخضع لكم المهاجرون في النهاية
[12]