هال فاطمة ما سمعت من محاولة اغتيال الخليفة لبعلها وإمامها عليّ .
هؤلاء سلبوا حقَّ علي واستولَوا على فدك ، والآن يريدون تيتيم أطفالها !
لا يمكنها السكوت عن هذا بعد الآن ، قد حان وقت الصرخة .
صرخة بعظمة التاريخ ، منقوشة على جبينه لن تنمحي .
صرخة نصرة الحقّ وإبطال الباطل.
وليس يتمثّل الحقّ اليوم عند فاطمة إلاّ بعليّ ، وها هي قادمة لنصرة عليّ .
تشتمل فاطمة بجلبابها وتتوجّه نحو المسجد في لُمّة من نسوة بني هاشم .
يقترب وقت الصلاة ، والمسجد يغصّ بالمصلّين .
فيتساءل الناس متعجّبين : لأيّ شيء جاءت فاطمة إلى المسجد ؟!
تجلس فاطمة في زاوية وقد ضُربت لها ملاءة .
يخيّم السكون على جوّ المسجد .
فتأنّ فاطمة أنّة من أعماق قلبها المكلوم .
لا أدري ما كانت هذه الأنّة التي جعلت جميع الناس يبكون لها .
انظر، الجميع يبكي بحرقة .
أنّة فاطمة هيّجت عواطف الناس وأراقت مدامعهم غزيرة .
هذه الأنّة عكست كلّ مظلومية فاطمة .
ثمّ تسكت فاطمة ، فيما ترتفع شهقات البكاء من كلّ مكان
[183] وبعد لحظات يخيم السكون على المسجد ، فتشرع فاطمة في خطبتها :
ـ بسم الله الرحمن الرحيم ; الحمد لله على ما أنعم ، وله الشكر على ما ألهم ... .
وأشهد أنّ أبي محمداً عبدُه ورسوله، قام في الناس بالهداية ، ثمّ قبضه ا لله إليه ، ولقد استخلف عليكم كتاب الله الناطق والقرآن الصادق ، مؤدٍّ إلى النجاة استماعُه ، به تنال حجج الله المنورّة وفضائله المندوبة، ورخصه الموهبة، وشرائعه المكتوبة .
فجعل الإيمان تطهيراً لكم من الشرك ، والصلاةَ تنزيهاً لكم عن الكِبر ، والصيام تثبيتاً للإخلاص ، والحجَّ تشييداً للدين ، وطاعَتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً من الفُرقة .
أيّها الناس ، اعلموا أنّي فاطمة وأبي محمّد ... وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب ونهزة الطامع، تشربون الطرق، وتقتاتون القد ، أذلّةً خاسئين تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تعالى بأبي محمّد صلّى الله عليه وآله بعد اللُّتيّا والتي... .
وأعداء الله كلّما أوقدوا ناراً للحرب قذف أخاه ( أي عليّاً ) في لهواتها، فلا ينكفئ حتّى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه .
كان (علي) مشمّراً ناصحاً، مجدّاً كادحاً، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون، تنكصون عند النزال، وتفرّون عند القتال .
فلمّا اختار الله لنبيّه دار أنبيائه ظهر فيكم حسيكة النفاق، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم ، فألفاكم لدعوته مستجيبين ، ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافاً .
هذا والعهد قريب والجرح لما يندمل، والرسول لمّا يُقبَر . زعمتم خوف الفتنة، (أَلاَ فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَُمحِيطَةُ بِالْكَـفِرِينَ ) .
[184] ثمّ أخذتم تورون وقدتها، وتهيّجون جمرتها، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغَويّ، وإطفاء أنوار الدين الجليّ، وإهماد سنن النبيّ الصفيّ
[185] سكتوا كأن على رؤوسهم الطير وهم يصغون السمع لما تقول فاطمة .
وتلتفت نحو الأنصار ( أهل المدينة ) ، فتقول لهم :
ـ يا معشر الأنصار ! ما هذه الغَميزة في حقّي والسِّنَة عن ظُلامتي ؟! سرعان ما أحدثتم ، ولكم طاقّة بما أُحاول ، وقوّة على ما أطلب وأُزاول .
ألا وقد قلتُ ما قلت على معرفة منّي بالجذلة التي خامرتكم ، والعذرة التي استشعرَتْها قلوبكم ،ولكنّها فيضة النفس ونفثة الغيظ، وخور القناة وبثّة الصدر .
وأنا ابنة نذير لكم بين يَدي عذاب شديد ، فاعملوا إنّا عاملون ، وانتظروا إنّا منتظرون (وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَـلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ )[186187]
وتُنهي خطبتها ، فيما يطرق الناس يعظّون على الأنامل يتلاومون فيما بينهم ، كيف كافؤوا نبيّهم بابنته ، وهذه كلمات النبيّ ليست بعيدة العهد : "فاطمة بضعة منّي، فمن آذاها فقد آذاني " ، فما هذا الذي فعلناه ببضعة النبيّ ؟!