ويمضي يوم على أحداث صرخة الشمس ، الخليفة جالس في بيته مفكّراً في حال لا يُحسَد عليها .
انظر ، يَقْدم عمر لرؤية الخليفة .
ـ كما كان جيّداً لو تركتَني بحالي !
ـ لماذا لا تصدّق أنّي أهتمّ بأمرك ؟
ـ هل رأيتَ ما فعَلَت فاطمة بنا أمام الناس ؟
ـ لا عليك ، ما هي إلاّ أيّام قلائل وينسى الناس كلّ شيء .
ـ ولكنّي خائف ، ألم تسمعها تخوّفنا بيوم القيامة ؟
ـ أيّها الخليفة المبجل ! أقم الصلاة وثبّت دين الله وأحسن إلى الناس ولا تقلق ، ألم تقرأ القرآن ؟
ـ كيف ؟
ـ يقول الله : (إِنَّ الْحَسَنَـتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّـَاتِ )
[194] فيضرب أبو بكر بيده على كتف عمر ويقول:
ـ كم من كربة فرّجتها يا عمر .
[195] ـ ليس الآن وقت هذا الكلام ، أرى أن تصعد المنبر وتوعد الناس وتحذّرهم التجاوز على حرمة الخلافة ، وسترى أنّ كلّ شيء سيتغيّر لصالحك .
ـ لَنِعْمَ ما أشرت .
ويأمر الخليفة من ينادي بالاجتماع في المسجد .
ويغصّ المسجد مرّة أُخرى بالناس ، وهم ينتظرون صعود الخليفة المنبر ليخطب بهم .
وأخيراً يصعد الخليفة أعواد المنبر فيخاطبهم قائلاً:
ـ أيّها الناس ، ما هذه الرِّعة إلى كلّ قالة ؟ أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله ؟
ألا من سمع فَلْيَقل ، ومن شهد فليتكلّم ، إنّما هو ثُعالةٌ شهيدهُ ذَنَبُه ، مربٌّ لكلّ فتنة !
تستعينون بالضَّعَفة وتستنصرون بالنساء ، كأمّ طِحال أَحبُّ أهلها إليها البغي .
ألا إنّي لو أشاء أن أقول لقلت ، ولو قلت لبحت ، إنّي ساكت ما تُرِكت
[196] ياترى من كان يعني أبو بكر بكلامه هذا ؟
يا إلهي ؟
لا يكون مقصوده ... .
أطعني أيّها القلم الكليل ، ودعني أبوح بكلّ ما أدريه ، وإن تكن الحقيقة مُرّة ، فأنا واعدت أصدقائي بكتابة كلِّ ما أعرف عن حقائقَ حاوَلَ التاريخ طمسها وإخفاءَها عن الناس .
يا مولاي ! هل تسمح لي بكتابة هذه العبارة في هذا الكتاب ؟
أنت العارف بعشق هذا القلم لك .
إنّما أُريد أن أوضّح للناس كم أنت مظلوم يا مولاي .
صديقي العزيز ، يريد أبو بكر أن يقول أنّ عليّاً لأجل إثارة الفتنة قدّم فاطمة أمامه ، وجعلها شاهد حقّه .
ولكن لا أدري هل أحكي لك قصّة أُمّ طِحال أم لا ؟
أُمّ طحال امرأة في الجاهلية فاجرة معروفة بالفسق ، كانت ترغّب النسوة من بني قومها بالزنا .
وها هو أبو بكر يشبّه مولاك بهذه المرأة !!
معذرة إليك يا أمير المؤمنين ، إنّما كلّ همّي رواية مظلوميتك وشرحها للناس .
هذه ترجمة كلمات أبي بكر : يستعين عليٌّ بالنساء من أجل الوصول إلى هدفه ، كما تستعين أُمّ طحال بنساء قومها .
قد تُخطِّئني بذلك قارئي العزيز ، وتقول بأنّ أبا بكر لم يلمّح بكلامه الآنف لعلي وفاطمة; إذ كيف يُعقَل التجاسر مِن على منبر رسول الله على أعزّ الناس إليه ؟ !
أرجو أن يكون الحقّ معك .
اسمع ، صوت مَن هذا القادم ؟
إنّه صوت امرأة تصيح : يا أبا بكر ، ألِمِثل فاطمة يُقال مثل هذا الكلام ؟
هي والله الحوراء بين الإنس ، رُبّيَت في حجور الأتقياء وتناولتها أيدي الملائكة، ونمت في حجور الطاهرات ، ونشأت خير منشأ ، ورُبّيت خير مربأ .
هي خِيَرة النسوان، وأُمّ سادة الشبّان ، وعديلة ابنة عمران، تمّت بأبيها رسالات ربّه ، فوالله قد كان يشفق عليها من الحرّ والقر ، ويوسّدها بيمينه ، ويلحفها بشماله رويداً ، ورسول الله بمرأى منكم وعلى الله تَرِدون غداً .
واهاً لكم فسوف تعلمون
[197] رفيقي في هذا السفر ، هل تعلم شخص القائل ؟
إنّها أُمّ سلمة زوجة النبيّ .
لم تستطع أن تسمع تعريض أبي بكر هذا بفاطمة وتقليله من احترامها وعلى منبر أبيها .
فأوضحت بكلامها هذا للناس مقام فاطمة المبجّل .
يأمر أبو بكر بحرمانها من عطائها تلك السنة
[198] صحيح أن أُمّ سلمة زوجة النبيّ ، ولكن بسبب حمايتها لفاطمة ووقوفها معها يجب أن تعاني الفقر والحرمان ، فقطع عطاءَها سنةً كاملة !
نعم ، الآن يمكنك أن تفهم لماذا كان الناس في المسجد لا يردّون كلام الخليفة ولا يقفون في وجهه .
كانوا يحبّون الدنيا ، يحبّون الذهب ، كانوا يخافون أن يُمنع عطاؤهم من بيت المال .
نعم ، المال هو سرّ سكوت الناس ذاك .